بعد مضي أكثر من أسبوعين على الأجل المحدد بالاتفاد الصادر بتاريخ 24/2/2011 والموقع بين الوزارة و التمثيليات النقابية داخل القطاع والمتضمن لمجموعة من البنود الملزمة للطرفين، لم يتم طرح مشروع متكامل ومتجانس ، واضح المعالم من قبل الوزارة بخصوص لب هذا الاتفاق وهو قانون أساسي لكتابة الضبط ،محصن ومحفز ومترجم لمضامين الخطابات الملكية ،محاولة لإفراغه من جوهره، ونجد للأسف بعض المحسوبين على الموظفين، والذين تنحصر طموحاتهم في دراهم معدودة ياخدونها كل شهر لا اقل ولا اكثر، في حين أن اللباب لا يهمهم في شيء الا وهو التحصين، هذا المصطلح الذي هم القليلون المدركون لمعانيه ومنهم الوزارة وجميع الأطراف المعنية بهذا الإصلاح وبهذا القانون،حيث نجده مطلبا لا دخل لظرفية اقتصادية ولا اجتماعية ولا موازنات مالية ماكرو اقتصادية في ترسيخه وتمتيع الموظف به، ورغم ذلك لم تتخذ الخطوات اللازمة إلى حينه لإقراره.
فشلت الوزارة في الوفاء بمضامين الاتفاق، وبالتحديد مضمن المتعلق بالقانون الأساسي، في حين، انسلخت بعض النقابات من مضمون الاتفاق بعلة أوردناه في هذا المنتدى، وحقيقة استغرب عند قراءة بلاغاتهم بعد الانسلاخ هذا وهم لا زالوا يستندون على بنود الاتفاق كمرتكز لها، والبعض الآخر اتخذ المسار الصحيح فوفى بعهده إلى متم شهر ابريل، ليعود إلى النضال من جديد. السؤال المطروح ، هل الأطراف المعنية بالاتفاق والتي لم تلتزم ببنوده تتحمل مسؤولية جبر الضرر الذي طال الموظف باعتباره الأصل الممثل من قبل النقابات؟
إجابة على هذا السؤال، أورد لكم ما كتبه ذ/ عمر سالم محمد لتطلعوا عليه وتحاولوا بسط الجواب بعد فهم السؤال.
الطبيعة القانونية للمسؤولية السابقة على التعاقد
بحث من تأليف الأستاذ / عمر سالم محمد
المقدمــــــة
إذا قام أحد أطراف التفاوض بسلوك معين ، وأخل بمبدأ حسن النية أو أخل بأحد الألتزامات المتفرعة عن هذا المبدأ فأنه يكون بسلوكه هذا مخطىءً ومسؤولاً عما سببه من ضرر للطرف الأخر , واذا كان لابد من أن يعاقب المتفاوض مدنياً عن خطأه ، فأن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما طبيعة المسؤولية التي تقع على عاتق المتفاوض ؟ هل هي مسؤولية عقدية أم مسؤولية تقصيرية أم مسؤولية متميزة ؟ للأجابة على هذا التساؤل سوف نبحث في هذا الصدد هذه الفكرة في مبحثين ، نبحث في المبحث الأول الأتجاهات الفقهية في طبيعة المسؤولية السابقة على التعاقد وفي المبحث الثاني نبحث في النظرية المختارة لطبيعة هذه المسؤولية .
المبحث الأول
الأتجاهات الفقهية في طبيعة المسؤولية السابقة على التعاقد
في حقيقة الأمر عندما ظهرت المسؤولية المدنية السابقة على التعاقد ولاسيما في مرحلة التفاوض أختلف الفقه بشأن تحديد طبيعتها([1]). فمن الفقه من قال ان هذه المسؤولية هي عقدية دائماً ، ومنهم من قال بأنها لاتتعدى كونها مسؤولية عن فعل ضار على اساس أن مرحلة التفاوض ماهي الا مرحلة عادية وما يصدر خلالها لايعد الا من قبيل الأعمال المادية المحضة ، وهناك أتجاه يذهب الى المناداة بجعلها مسؤولية متميزة أي مسؤولية خاصة تتلاءم مع طبيعة المرحلة السابقة على التعاقد وعلى هذا الأساس سنقوم بدورنا في هذا المجال ببحث هذه الأتجاهات والتعرف على مضمونها في مطلب مستقل لكل منها وعلى النحو الاَتي :
المطلب الأول
نظرية المسؤولية العقدية عن الخطأ قبل التعاقدي
يمكن القول إِنَّ هناك أتجاهين أثنين متفقين من وجه ومختلفين من وجه أخر ، فوجه الأتفاق يتحدد في ان مضمونها واحد وهو أن المسؤولية السابقة على التعاقد هي مسؤولية عقدية ، أما وجه الأختلاف فيتمثل في أختلافها من حيث الأساس ، فالأتجاه الأول يرى أن أساس المسؤولية السابقة على التعاقد هو وجود العقد الضمني المفترض بين أطراف التفاوض فالأخلال الحاصل في هذه المرحلة يكون خطأًعقدياً وبالتالي يجب معالجة الضرر الناتج عنه وفق أحكام المسؤولية العقدية .
أما الأتجاه الثاني فيرى أن أساس المسؤولية السابقة على التعاقد هو وجود عقود أولية ممهدة لأبرام العقد الأصلي ، وتكون هذه العقود مستقلة عنه وغايتها التمهيد له والتحضير للعقد المنشود ، فأي خرق للألتزامات تحصل في هذه المرحلة تعد مخالفة عقدية وبالتالي تجبر الأضرار وفق أحكام المسؤولية العقدية .وعليه سوف نبحث هذين الأتجاهين وعلى النحو التالي:-
الأتجاه الأول
يعد الفقيه (أهرنج) من أهم أنصار هذا الأتجاه وذلك بفكرته عن "الخطأ عند تكوين العقد "([2]) ، إِذ يرى أن الخطأ في الفترة السابقة على التعاقد وسواء ترتب عليه عدم أنعقاد العقد أم أدى الى بطلان هذا العقد هو خطأعقدي يثير المسؤولية العقدية على عاتق مرتكبه بتعويض الضرر الذي لحق الطرف الأخر ويستخلص أهرنج في ضوء ذلك أن العقد بالرغم من بطلانه ينشىء ألتزاماً بالتعويض كعقد لا كواقعة مادية وبذلك فأن دعوى التعويض تستند الى دعوى العقد ذاتها([3]). وينحصر الخطأ العقدي في نظر أهرنج في أقدام المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته على التعاقد وكان واجباً عليه أن يعلم بذلك ، وحتى لوفرض أنه كان لا يعلم بسبب البطلان ، فمن العدل أن يتحمل الضرر الذي أصاب المتعاقد الأخر حسن النية،بمعنى أن الخطأ عند أهرنج هو وجود سبب البطلان في جانب أحد المتعاقدين مما يتعين معه تعويض المتعاقد الأخر([4]). وأما عن تكييف أهرنج لهذا الخطأ بأنه عقدي على الرغم من عدم أبرام العقد أو بطلانه فأنه يستند الى أفتراض وجود عقد ضمني مقترن بكل تعاقد ، بمقتضاه يتعهد كل شخص مقدم على التعاقد للطرف الأخر بصحة التصرف وبان لا يقوم من جانبه سبب يوجب بطلان العقد وبذلك يكون رضاء المتعاقد الأخر في الوقت نفسه أيضاً قبولاً ضمنياً لهذا التعهد فيتم عقد الضمان بأيجاب وقبول ضمنيين([5]).
وقد قال أهرنج إِنَّ التصرف القانوني (العقد) الذي يضفي الطبيعة العقدية على المفاوضات هو عبارة عن عقد ضمني بين المتفاوضين يلتزم بمقتضاه كل واحد من المتفاوضين تجاه الأخر بأن يجعله في وضع يسمح له بأبرام العقد محل التفاوض ،كما يلتزم في الوقت ذاته بالأمتناع عن أي عمل من شأنه أعاقة عملية أبرام العقد فإذا قطع المفاوضات دون عذر مشروع يكون قد أخل بالألتزام الذي يفرضه عليه العقد الضمني وبالتالي يسأل مسؤولية عقدية عن تعويض الضرر الذي لحق الطرف الأخر([6]). وأما الكيفية التي نشأ بها العقد الضمني حسب رأي أهرنج فهي: أن الأيجاب الصادر من أحد المتفاوضين يتحلل الى أيجابين الأول موضوعه العقد الذي يجري التفاوض بشأنه ،أما الأيجاب الثاني فموضوعه عدم أعاقة أبرام هذا العقد .ولما كان هذا الأيجاب الأخير يتمخض لمصلحة الموجب له فأن مجرد سكوته يعد قبولاً يقوم به العقد الضمني([7]). الا أن هذا الرأي منتقد ،فهو يقوم على مجرد الأفتراض ، وذلك لأن أي عقد لكي ينشأ لابد أن تنصرف إِليه الأرادة بشكل صريح وبات هذا من جهة ومن جهة أخرى فأن المتعاقد عندما يعلن عن أرادته فهو يستهدف أبرام العقد الذي يجري التفاوض بشأنه ولا يخطر في باله أبرام عقد أخر (العقد الضمني الذي يفرض عليه التزام بعدم أعاقة ابرام العقد) ثم أن العقد الضمني يرتب الألتزام بعدم أعاقة ابرام العقد منذ لحظة الأيجاب ومن باب مفهوم المخالفة فأن المتفاوض حر في قطع المفاوضات قبل توجيه الأيجاب([8]).
وقد ظهر الى جانب رأي أهرنج رأي أخر في تفسير نشوء التصرف القانوني الذي يضفي الطبيعة العقدية على المفاوضات .وحسب هذا الرأي فأن المفاوضات تتشابك ابتداءً بناءً على دعوة يتم قبولها .وهذا الأتفاق الأول هو المصدر المباشر للضمان المتبادل في مرحلة المفاوضات ،ذلك أنه ينطوي على شرط ضمني بمقتضاه يتعهد كل متفاوض قبل الأخر بأن يستمر في المفاوضات وأن لا يقوم بقطعها تعسفاً حتى يتحقق الغرض النهائي منها والا التزم بتعويض المتفاوض الأخر عن فوات هذا الغرض([9]). وهذا الرأي منتقد أيضاً لأنه يغفل حقيقة العقد وهي ان هذا الأخير لا يبرم الا بتلاقي أرادة الأطراف بشكل بات لا لبس فيه فلا يجوز أفتراض العقد أو فرضه ، كما ان قبول الدعوة الى التفاوض لا ينشأ أتفاقاً يكون مصدراً للألتزام بالضمان لأن الأرادة لم تنصرف الى أحداث مثل هذا الأثر القانوني (الألتزام بالضمان )([10]). ومن الجدير بالأشارة الى أن هناك نظريات اخرى طرحها الفقه في بيان أساس المسؤولية العقدية الناتجة عن الخطأ قبل التعاقدي ومن أهمها نظرية الوكالة التي نادى بها الفقيه (شورل) الذي ذهب الى أن كل عقد يقترن بمجرد الدعوة الى ابرامه بتوكيل ضمني للطرف الأخر بأتخاذ الأجراءات اللازمة لأبرام هذا العقد ومن ثم يلتزم الموجب اذا لم يتم العقد بتعويض الطرف الأخر عن المصروفات التي أنفقها على أساس أحكام الوكالة ومن ثم فأن مسؤوليته في هذا الصدد مسؤولية عقدية . وكذلك تقترب من هذه النظرية أيضاً نظرية الفضالة التي قال بها الفقيه (تون) الذي نادى بتأسيس المسؤولية قبل التعاقدية على فكرة الفضالة لتكون المسؤولية عقدية ، على أساس أن من يوجه الدعوة الى التعاقد دون أن يكون مالكاً للشيء أو صاحب الحق ، موضوع العقد ولا واثقاً من الحصول عليه دون أن يخطر بذلك الطرف الأخر يعد فضولياً ومن ثم يجب تعويض المتضرر على أساس أسترداد ما أنفق بدعوى الفضالة([11]). في الحقيقة وأن كانت النظرية التي اسسها (أهرنج) ماهي الا نتيجة الظروف السائدة أنذاك([12]). الا أنه يمكن الأعتراف وبكل صراحة أنه قد نجح في سد ثغرة من ثغرات القانون الروماني الذي كان سارياً في المانيا أنذاك ،الا أنه لا يوجد مبرر للأخذ بها في الوقت الحاضر.
الأتجاه الثاني
يعد الفقيه (سالي) من أبرز أنصار هذا الأتجاه ،اذ نادى بفكرة العقد التمهيدي يرى أنه يوجد بجانب العقد الأصلي عقد تمهيدي عبارة عن وعد بالتعاقد يتضمن تعهداً جدياً من جانب الواعد ويثير مسؤوليته العقدية اذا صادف قبولاً من الطرف الأخر، وبالتالي تتحقق المسؤولية العقدية وأن لم يبرم العقد الأصلي([13]).
ولكن ماهو العقد التمهيدي ؟ وماهو أساس الفصل بين العقد الممهد والأتفاق الممهد في المرحلة السابقة على التعاقد ؟ للأجابة على هذه الأسئلة نحاول التطرق لتعريف العقد التمهيدي في الفقرة الأولى وفي الفقرة الثانية نتكلم عن اساس الفصل بين العقد الممهد والأتفاق الممهد في المرحلة السابقة على التعاقد وعلى النحو الأتي:-
أولاً:- تعريف العقد التمهيدي
يلجأ اطراف العلاقة التعاقدية في بعض الحالات الى أبرام عقود من شأنها أن تمهد للعقد النهائي المقصود ومثال ذلك عقد القرض الذي يمهد لشراء العقار أذ أن أبرام العقد النهائي هذا (شراء العقار) غير ممكن عملياً ومادياً من دون أن يتوافر المبلغ اللازم لدفع الثمن ومن خلال عقد القرض الذي يساهم بذلك في تحقيق أهم الوسائل اللازمة للتعاقد ومن ثم فأن الخلط بين العقد التمهيدي وغيره من العقود التي تسهل التعاقد أمر وارد .فمن الضروري أن يتم تمييز هذه الصورة من التعاقد مثلاً عن العقد المعلق على شرط ،فالأخير هو العقد النهائي، وهو مقصود لذاته فلا يمهد لعقد أخر وكل مافي الأمر أن وجوده أو أستمراره معلقان على تحقق شرط معين[14] .وعليه فأنه يمكن تعريف العقد التمهيدي بأنه(ذلك العقد الذي يسبق أبرام العقد النهائي المنشود والذي يكون بدوره ممهداً للعقد النهائي ويترتب على مخالفته المسؤولية العقدية وأن لم يبرم العقد النهائي).
ثانياً:-أساس الفصل بين العقد الممهد والأتفاق الممهد
إِنَّ التطور الحديث للعقود وتقسيم بعضها الى مراحل تسبق أبرامها يفتح الباب أمام أمكانية بحث هذا التقسيم على أساس ومبررات تشريعية وعملية ،فمن الناحية التشريعية فأن المشرع في بعض الدول نظم العقود التمهيدية وترك المجال مفتوحاًأمام الفقه والقضاء لتأكيد وجود أتفاقيات ممهدة للعقود ،كما نظم أنواعاً من هذه الأتفاقيات بنصوص خاصة،كأتفاقيات العمل الجماعية([15]) ويعود هذا التقسيم الى أمرين:-
1- نية الأطراف :
إذ تتجه في حين الى أبرام عقد تمهيدي ، وفي حين أخر الى مجرد الأتفاق وبشكل مبدئي على التفاوض تمهيداً للتعاقد ،من دون أن يكون لدى أي من هذه الأطراف نية التعاقد حالياً،فتصر الأطراف في مثل تلك الحالات مع التأكيد كتابةً على عدم قيام أي عقد في مرحلة التفاوض بل أن كل مايتم الأتفاق في شأنه في هذه المرحلة لايعدو أن يكون أتفاقاً ممهداً([16])
2-المسؤولية :
هذا الأمر يرتبط بالمسؤولية المترتبة على عدم الألتزام بما تم التوصل إليه ،فأن كنا أمام عقد تمهيدي فأن المسؤولية تكون عقدية بكل ماتعنيه هذه الصفة وما ترتبه من أثار في أثبات الخطأ والضرر وفي مدى التعويض، في حين أن خرق الأتفاق التمهيدي لايثير المسؤولية العقدية، وأنما التقصيرية للطرف غير الملتزم وبكل مايرتبه ذلك من أثار في أثبات وجود الألتزام والخطأ والضرر والرابطة بينهما وفي مدى التعويض([17]).
ومن الناحية العملية ،فأن تقسيم التصرفات القانونية السابقة على العقد الى عقود وأتفاقيات يتناسب مع متطلبات الكثير من العقود الحديثة فكم من عقد في العمل يحتاج الى عقد أو عقود أخرى تمهد له ومن ذلك مثلاً شراء العقار الذي يمهد له بعقد قرض يتم من خلاله توفير المبلغ أو جزء من المبلغ اللازم للوفاء بثمن العقار،وكم من عقد يمهد له بأتفاق لا بعقد أخر ويكون مؤدى هذا الأتفاق تأكيد ألتزام الأطراف بالتفاوض للوصول الى العقد النهائي(كعقود بيع المؤسسات والشركات الكبرى) أو يكون هدفه تدوين أو تأكيد ماتم التوصل إليه في بعض مراحل التفاوض ليكون ذلك أساساً ينطلق منه الى مراحل أخرى في سبيل الوصول في نهاية الأمر الى العقد المقصود وهذا هو حال عقد دراسات الكومبيوتر والتزويد بالأنظمة الألكترونية ،فلا تتوافر عناصر العقد المقصود الا من خلال هذه الأتفاقيات ،فقد لا يبرم أي عقد في هذه المرحلة لأن الأطراف ذاتها ترغب في الحفاظ على حريتها خالية من كل ألتزام عقدي([18]).
رأينا في الموضوع
نحن بدورنا نتفق مع هذا الأتجاه الذي يجعل المسؤولية السابقة على التعاقد مسؤولية عقدية إذا وجدت عقود أولية ممهدة للعقد الأصلي المنشود فأي أخلال أو خرق يقع في هذه المرحلة تحتضنه قواعد المسؤولية العقدية وأن لم يبرم العقد الأصلي.
المطلب الثاني
نظرية المسؤولية التقصيرية عن الخطأ قبل التعاقدي
ذهب الكثير من الفقهاء الى أن فكرة المسؤولية التقصيرية هي التي تحكم مرحلة التفاوض وتعد هي أسهل الوسائل وأيسرها تطبيقا على هذه المرحلة لحجة مفادها أن أحكام هذه المسؤولية هي وحدها التي تطبق عند عدم وجود عقد([19]). وحاول أنصار هذا الأتجاه تأسيس هذه النظرية على أساس فكرة التعسف([20]). ولكن يبدو أن التمسك بالتعسف اساساً لهذه المسؤولية يستوجب وجود حق يتعسف المتفاوض في استعماله وليس ثمة مثل هذا الحق([21]). هذا وأن هذه النظرية ظهرت عندما لم يكتب لنظرية (الخطأ عند تكوين العقد) النجاح في الفقه المعاصر وكان تكييفها للخطأ السابق على التعاقد بأنه خطأ عقدي يثير المسؤولية العقدية لمرتكبه محل أعتراضات فمن ناحية أولى فأن هذه النظرية تجعل قيام سبب البطلان في جانب المتعاقد خطأ حتماً رغم أن هذا المتعاقد قد يكون جاهلاً كل الجهل قيام سبب البطلان في جانبه فالخطأ هنا أقرب الى فكرة تحمل التبعة([22]). الا يجب أثباته طبقا لقواعد الخطأ التقصيري وفي الحالتين لن يكون خطأ عقدياً، ومن ناحية ثانية أن هذه النظرية تجعل الألتزام بالتعويض موضوع تعهد ثانوي يقترن بالتصرف الباطل ويبقى رغم بطلان هذا التصرف ليكون اساسا اراديا لتعويض الغير عن الضرر الناشىء عن البطلان وهي تفترض بذلك قيام تعهد بالصحة في جميع العقود دون أن يقوم دليل على ذلك([23]). ومن ناحية ثالثة حتى لو سلمنا بأفتراض وجود هذا التعهد الثانوي بضمان صحة التصرف الأصلي، فلا شك أن بطلان التصرف الأصلي سيؤدي الى بطلان هذا التعهد الثانوي أيضا فينعدم بذلك سند تكييف المسؤولية بأنها عقدية والا فأن تجزئة البطلان في هذا الصدد والقول بأنه ينصرف الى التعهد الأصلي فقط دون الثانوي هي تجزئة تحكمية غير مقبولة([24]). وأخيراً فأنه حتى في الحالات التي يتضمن فيها القانون نصاً خاصاً يقرر المسؤولية القانونية بالتعويض عن بطلان العقد فان المسؤولية ستكون قائمة بحكم القانون لا على اساس التصرف الباطل([25]). وفي ضوء هذه الأنتقادات نخلص الى أن المسؤولية قبل التعاقدية الناشئة عن الخطأ قبل التعاقدي هي مسؤولية تقصيرية تستوجب التعويض ومن ثم يجب أن تستكمل دعوى التعويض هنا أثبات عناصرالمسؤولية التقصيرية كافة من خطأ وضرر وعلاقة سببية ، وعلى هذا أستقر الرأي السائد في الفقه الحديث لدى الشراح المصريين([26]). وعلى هذا الأساس فأن المسؤولية التقصيرية للعقد في كل مرة يثبت فيها أقتران العدول عن التعاقد أو مصاحبة بطلان العقد لخطأ أرتكبه أحد الأطراف المتفاوضة وألحق ضررا بالأخر ، وعليه فأن الأعمال التحضيرية للعقد أو(مشروع العقد) التي تشمل مرحلة المفاوضة ومرحلة أبرامه لاتعدوأن تكون عملاً مادياً ليس له أي أثر قانوني . أذن أن هذه النظرية قد عدت مرحلة المفاوضات مجرد أعمال مادية ليست لها أي أثر قانوني أي لا ترتب أي التزام على طرفي التفاوض ،فهي لا تلزمهم بضرورة التوصل الى أبرام العقد محل التفاوض ، الا اذا قام أحد الأطراف بأرتكاب خطأ ونتج عنه ضرر لحق بالطرف الأخر فأنه هنا تقوم المسؤولية التقصيرية عليه .
وهذه النظرية منتقدة أيضا لانها تجاهلت بأن ثمة ألتزامات يمكن أن تنشأ في هذه المرحلة ناتجة عن مبدأحسن النية الذي يسيطر على هذه المرحلة([27]). او ناتجة عن العديد من العقود التي قد تبرم بين أطراف التفاوض ويكون الغرض منها تنظيم عملية التفاوض وأسباغ الصفة العقدية على مجرياتها وأبعد من ذلك قديتم توقيع عقد الأتفاق على التفاوض بحيث تصبح عملية التفاوض ذات صفة عقدية بحتة([28]). وبناءً على الأنتقادات التي وجهت لنظرية المسؤولية العقدية وكذلك نظرية المسؤولية التقصيرية اندفع بعض الفقه للقول بوجود مسؤولية خاصة تلائم طبيعة المرحلة السابقة على التعاقد ، وعليه سوف نتكلم عن هذا الأتجاه في المطلب الثالث .
المطلب الثالث
نظرية المسؤولية الخاصة عن الخطأ قبل التعاقدي
جاءت هذه النظرية لمعالجة الأخلال الذي يقع في مرحلة مفاوضات العقد،وقال أنصار هذا الأتجاه أنه لايمكن معالجة الأخلال بموجب أحكام المسؤولية العقدية بصورة عامة ولا بموجب أحكام المسؤولية التقصيرية أيضا دون أن تؤخذ بنظر الأعتبار الخصوصية التي تتمتع بها مرحلة المفاوضات وتنبع هذه الخصوصية من كونها تقوم قبل أبرام العقد وقبل الدخول في نطاقه ،وعليه فقد ظهرت هذه المسؤولية لمعالجة الأخطاء التي تحصل قبل التعاقد بما لها من خصوصية ([29])وذهب أنصار هذا الأتجاه الى أيجاد هذا النوع من المسؤولية الذي يقف جنباً الى جنب مع كل من المسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية. وعلى الرغم من الأنتقاد الموجه لهذه النظرية وهو قيام هذه النظرية على أساس الخطأ وأن أثبات هذا الأخير ليس بالأمر اليسير([30]). الا أن لها صدى مهم وذلك لأنها جعلت المسؤولية الناشئة عن الأخطاء التي تقع خلال هذه المرحلة المتميزة هي الأخرى متميزة ومتلائمة مع طبيعة المرحلة التي تعالجها .
وعليه وحسب رأينا أنه اذا لم يمكن التعرف بسهولة على الخطأ هل هو خطأ عقدي أم هو خطأ تقصيري فلا داعي لبذل الجهد والوقت الضروريين في كل مكان وزمان أي بعبارة أخرى إِذا لم يكن بالأمكان معرفة هل أن الخطأ ناتج عن الأخلال بألتزام عقدي أم أنه كان نتيجة تقصير من جانب الطرف الخاطىء ؟ ففي هذه الحالة يتم اللجوء للمسؤولية المتميزة والخاصة بهذه المرحلة ومن ثم تحل الأشكالية بسهولة , وعليه يمكن القول بأنه لا يمكن في جميع الأحوال أن تطبق قواعد المسؤولية التقصيرية على أساس أنه إِذا لم يكن الأخلال داخلاً ضمن النطاق العقدي فتطبق قواعد المسؤولية التقصيرية وذلك لأنها في بعض الأحيان يؤدي تطبيقها الى نتائج شاذة وعكسية ، فمثلاً من يرغب ببناء مجمع تجاري ويتضح له أنه لابد أن يشتري العرصة المجاورة للأرض المخصصة لمشروعه لسد النقص في المساحة ويتفاوض مع صاحب هذه العرصة هذا بعد أن ينفق نفقات لدراسة المشروع ويتحمل تكاليفاً ويبذل جهداً ويخسر وقتاً ، وبعد أن تمر المفاوضات بينهما وتصل لمرحلة معينة حتى يقال إِنَّ ملامح العقد قد بدت تظهر للوجود وفجأة يقطع المتفاوض (صاحب العرصة) هذه المفاوضات ويمتنع عن البيع لسبب غير مبرر ولحكمة غير مشروعة ،أو يتضح فيما بعد أنه قاصرُ فلا يمكن تصور هذه الحالة ؟- فالمسؤولية التقصيرية لايمكن تطبيقها في الحالة الأولى وذلك لأنه لا يمكن أهدار الجانب الأرادي للمتفاوض، صحيح أنه لم يبرم العقد الا أن أرادتهما أتجهت لأبرامه وبغته يفاجىء من لا ذنب له بقطع هذه المفاوضات ويخسر ماكان يروم الوصول أليه فتطبيق أحكام المسؤولية التقصيرية يعني عدم أعطاء الخصوصية التي تتمتع بها مرحلة المفاوضات فهذا يؤدي الى أحجام الأفراد على الدخول في مثل هذه العلاقات لأن من يريد أن يتفاوض يجب أن يضع نصب عينيه فكرة جوهرية وهي أما أن يبرم عقداً رغماً عن أرادته وأما أن يقطع المفاوضات ويتحمل التعويض المترتب عليه وفقاً لأحكام المسؤولية التقصيرية وهذا لا نجد له فكرة قانونية واضحة تجسده او تقول به طائفة من الفقهاء وفي التصور الثاني – إِذا أتضح أنه كان قاصراً – أفلا نجد النتيجة العكسية أمام أعيننا إِذا ما طبقت أحكام المسؤولية التقصيرية ؟ يعني أن المفاوضات اذا ما نجحت وكان أحد أطرافها قاصرا فله خيار الأجازة والنقض خلال المدة المحددة له قانونا وهذا يعد حقاً طبيعياً يمارسه اذ ينعقد العقد موقوفاً لمصلحته فإذا ما نقض العقد فأنه لا يسأل عن التعويض ، بينما اذا فشلت المفاوضات فأن القاصر يسأل عن التعويض في حين لا يسأل عن التعويض لو أبرم العقد ونقضه لقصره([31]). فهذه نتيجة غريبة تترتب على القول بتطبيق أحكام المسؤولية التقصيرية أما بالنسبة لعدم أمكانية تطبيق قواعد المسؤولية العقدية عموماً فهو أيضأ قول لا يستقيم مع طبيعة المفاوضات لأن المسؤولية العقدية تعالج الأضرار الناشئة عن العقد فاذا حكمنا بها نكون قد جعلنا العقد يمد ظله للمرحلة السابقة على أبرامه ، ومن ثم يصبح المتفاوض ملزماً بالعقد منذ دخوله في المفاوضات لا من لحظة أبرامه ومن ثم يفوت الغرض المنشود من المفاوضات وهو التروي والتبصير والتأمل والتفكير بمنافع العقد المراد أبرامه قبل التحمل بالألتزامات الناشئة عنه .
وعليه وأنسجاماً مع الطبيعة المتميزة للمفاوضات العقدية نؤيد الأتجاه الفقهي الذي يذهب الى أن المسؤولية السابقة على التعاقد هي مسؤولية ذات طبيعة خاصة ، على أساس أن المسؤولية تحمل طبيعة وأوصاف الحق نفسه الذي تحميه وهذه المسؤولية هي مسؤولية ماقبل التعاقد (la resposabilite precontractuel) .
وعليه لا بد من أيجاد معيار نطبق بموجبه أحكام أحدى المسؤوليتين اذا كانتا على وجه من الوضوح (العقدية والتقصيرية) فسوف نبحث في المبحث الثاني النظرية المختارة لطبيعة هذه المسؤولية وكما يأتي .
المبحث الثاني
النظرية المختارة لطبيعة المسؤولية السابقة على التعاقد
أن نوع المسؤولية المدنية للمتفاوضين يتم تحديدها حسب طبيعة العلاقة بين الأطراف المتفاوضة , هل هي عقدية أم تقصيرية أم مختلطة تجمع بين الطبيعتين ، أي يجب وضع المشكلة ومنذ البداية في أطارها الصحيح ومن ثم يمكن تحديد طبيعة المسؤولية([32]). فقد تكون العلاقة بين الأطراف المتفاوضة علاقة مادية مجردة تارة ، وقد تكون عقدية تارة اخرى ويمكن أن نتصور أن تكون العلاقة مختلطة تجمع بين الطبيعتين كأن يقوم أطراف التفاوض بالأجتماع للتشاور بناء على دعوة مجردة وخلال تفاوضهم يقوموا بأبرام أتفاقات ممهدة للعقد النهائي كالأتفاق على ضمان السرية أو عدم التعاقد مع الغير لمدة معينة …….ألخ مما يعني وجود الدليل على توافر علاقة عقدية بين الأطراف المتفاوضة([33]). وعليه فأن المسؤولية تختلف وحسب الأحوال ،أي قد تنعقد المسؤولية العقدية مرة وقد تنعقد تقصيرية مرة أخرى وهذا ما يدفعنا الى دراسة هذه النقاط الجوهرية في ثلاثة مطالب، ندرس في المطلب الأول المنهجية التي تنعقد بها المسؤولية العقدية ، ونبحث في المطلب الثاني منهجية قيام المسؤولية التقصيرية ومن ثم نختتم هذا المبحث بمطلب ثالث نتناول فيه الخيرة بين المسؤوليتين .
المطلب الأول
أنعقاد المسؤولية العقدية
كلما أمكن التثبت من وجود عقد كان محصلة لتطابق الأيجاب مع القبول خلال مرحلة المفاوضات ، أنعقدت المسؤولية العقدية. ولا داعي للجدال والنقاش في هذه الحالة حول أنعقادها على أساس العقد المبرم بينهما والذي يحميه القانون بقواعد المسؤولية العقدية إِذا ماتم خرقه([34]). فقد يبرم أطراف التفاوض عقد الألتزام بعدم التفاوض مع الغير أو عقداً يتعلق بتنظيم عملية التفاوض أو عقد ضمان السرية فأنه في مثل هذه الحالات يجب على القاضي المعروض أمامه النزاع أن لا يتأخر في تطبيق أحكام المسؤولية العقدية كلما تحقق من توافر أركان المسؤولية العقدية([35]).
فمتى توافرت أركان المسؤولية العقدية([36]). وهي الخطـأ العقدي ،الضرر والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر قامت المسؤولية العقدية على مرتكب الخطأ ،فعدم تنفيذ المتفاوض لأحد الألتزامات الناشئة عن العقد يشكل خطأ عقدي ويستوي في ذلك أن يكون عدم قيام المدين بتنفيذ الألتزام ناشئاً عن عمده أو عن أهماله , والخطأ العقدي أما يتمثل بعدم تحقيق النتيجة –اذا كان الألتزام بتحقيق نتيجة – كالألتزام بعدم التفاوض مع الغير أو الألتزام بضمان السلامة أو يتمثل بعدم بذل العناية اللازمة والمطلوبة –اذا كان الألتزام ببذل عناية – كالألتزام بالأعلام([37]). ولا يكفي وجود خطأ عقدي لقيام المسؤولية العقدية في المرحلة السابقة على التعاقد فلابد من وجود ضرر ، والدائن هو المكلف بأثبات الضرر،لأنه هو الذي يدعيه،والضرر لا يفترض بمجرد ثبوت الخطأ فقد لا ينفذ المتفاوض (المدين) لأحد التزاماته ومع ذلك لا يصيب الطرف الأخر أي ضرر من ذلك ، وعليه يجب على الطرف المدعي أن يثبت الضرر الذي أصابه الى جانب أثباته للخطأ([38]). ويجب أن تكون هناك علاقة سببية بين الخطأ والضرر، ولا يكلف الدائن بأثبات هذه العلاقة ، بل أن المدين هو الذي يكلف بنفي هذه العلاقة اذا أدعى أنها غير موجودة ، فعبء الأثبات يقع على المدين لا على الدائن([39]). وأبعد من ذلك قد يجد القاضي عقداً معلقاً على شرط واقف او عقداً منجزاً او وعداً او مجرد عقد بالبدء في التفاوض او بالأستمرار فيه([40]). فكلما ثبت في يقين القاضي توافر عقد من العقود أو حتى مجرد وعد به ، فأنه يطبق قواعد المسؤولية العقدية وأن لم يبرم العقد النهائي([41]).
وعليه نستنتج مما سبق أنه في حالة الأخلال بأي التزام عقدي في مرحلة المفاوضات او الأخلال بالعقود الممهدة لأبرام العقد الأصلي فأن المسؤولية تكون عقدية على عاتق الطرف المخل بشرط توافر اركانها ، وفي الحالة التي ينتفي فيها وجود اي أتفاق خلال هذه المرحلة فأن المسؤولية الناشئة عن المخالفة تكون مسؤولية تقصيرية وهذا ما سنتولى بحثه في المطلب الثاني .
المطلب الثاني
قيام المسؤولية التقصيرية
إِذا أجتمع أطراف التفاوض حول مائدة التفاوض نتيجة لتوجيه دعوى مجردة لبدأ التفاوض ولم يقوموا بأبرام أي أتفاقات تنظيمية لعملية التفاوض فأنه في هذه الحالة تكون القواعد العامة للمسؤولية التقصيرية هي الضابط لهذه المرحلة ففي حالة قيام أحد أطراف التفاوض بالعدول عن المفاوضة وكان فعل عدوله مقترناً بخرق الألتزامات المنبثقة عن مبدأ حسن النية ، فيكون بعدوله هذا قد أرتكب خطأ، وعلى المتفاوض الأخر أن يثبت بأن فعل العدول لم يكن مشروعاً وقد أخل بواجب الألتزام بحسن نية ، وكذلك عليه أن يثبت انه قد الحق به ضرراً من جراء فعل العدول وبالطبع فأن العلاقة السببية مفترضة بين الخطأ والضرر([42]). وفي الحقيقة ليس فعل العدول فقط هو الذي قد يلحق الضرر بالمتفاوض الدائن، بل قد يلحق به الضرر اي فعل أخر يقوم به الطرف الأخر ويجعل هذا الأخير مسؤولاً عن التعويض ، مثل قيام أحد المتفاوضين بتقديم مقترحات غير جدية وبعيدة كل البعد عن الواقع ، فيكون بذلك قد أخل بضرورة التعاون مع الطرف الأخر وذلك دون قيامه بالعدول عن التفاوض .
صحيح أن حرية العدول مصونة لكل طرف من أطراف التفاوض ويستطيع ممارستها في أي وقت يشاء الا أنه يجب أن يكون عدوله هذا منطقياً ومبرراً ولا يخل بمبدأ حسن النية ومن ذلك ان تطرأ ظروف أقتصادية جديدة تؤثر على القدرة المالية للمتفاوض بحيث تجعل هذا المتفاوض غير قادر على تنفيذ ألتزاماته المستقبلية فيما لو أبرم العقد . وعموماً يمكن القول : أن المفاوضات كلما قطعت شوطاً طويلاً نحو ابرام العقد كلما تقلصت حرية اطراف التفاوض بالعدول عنها([43]). ويترتب على ذلك أن هذه المسؤولية تستوجب التعويض كأثر ناتج عن العقد الباطل ولكن بوصفه واقعة مادية وليس بوصفه عقداً،وذلك اذا كان البطلان يعزى لخطأ أرتكبه أحد المتفاوضين ومن ثم يجب أثبات جميع عناصر المسؤولية التقصيرية ويمكن القول أن الرأي الغالب في الفقه والقضاء قد تشيع لهذا الأتجاه([44]). وبقي أن نشير لنقطة جديرة بالذكر وهي مسألة الأعفاء من المسؤولية، ففيما يتعلق بمسألة الأعفاء من المسؤولية العقدية نجد أن من الفقه من يحرم جواز الأتفاق على الأعفاء من المسؤولية العقدية([45])، بينما ذهب رأي أخر من الفقه الى جواز الأتفاق المعفي من المسؤولية العقدية ولكن يدرجون في الوقت ذاته بعض الحالات التي لا يجوز فيها الأتفاق على الأعفاء من المسؤولية العقدية واهم هذه الحالات هي حالتي الغش والخطأ الجسيم([46]).
أما موقف المشرع العراقي من مسألة الأعفاء من المسؤولية العقدية فقد نجده أتخذ منحى متميزاً وصائباً في الوقت ذاته وذلك بأنه جعل الأصل هو الجواز على الأتفاق حول أعفاء المدين من المسؤولية العقدية ، وجعل حالتي الغش والخطأ الجسيم من الحالات التي لايجوز فيها الأعفاء من المسؤولية العقدية ومع ذلك فأنه يجوز للمدين أن يشترط عدم مسؤوليته في حالتي الغش والخطأ الجسيم اذا وقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه.
أي هناك أصل وأستثناء على الأستثناء ،فالأصل هو كما ذكرنا هو جواز الأتفاق على الأعفاء من المسؤولية العقدية ،والأستثناء هو يجوز أعفاءه اذا صدر من المدين غش أو خطأ جسيم ،والأستثناء على الأستثناء هو أنه لايجوز أشتراط الأعفاء من المسؤولية في هاتين الحالتين اذا كان يقع من أشخاص يستخدمهم المدين في تنفيذ التزامه([47]). وبما أن المبدأ في العقود هو حسن النية في تكوينها وتنفيذها ، فاذا أرتكب المدين غشاً او خطأً جسيماً يكون قد خالف مبدأ حسن النية الواجب في العقد ،أي يكون قد أرتكب أخلالاً غير متوقع أثناء التعاقد ترتب عليه ضرر غير متوقع للدائن فثبت سوء نيته ،لهذا السبب قررت التشريعات المدنية أعتبار حالتي الغش والخطأ الجسيم من قبل الأخطاء غير العقدية أي من الأخطاء الناشئة عن الفعل الضار وبالتالي لا يجوز أشتراط الأعفاء منها لأنها متعلقة بالنظام العام([48]). أما فيما يتعلق بشرط الأعفاء من المسؤولية التقصيرية ،فأن أي شرط يتعلق بالأعفاء من المسؤولية عن الفعل الضار يعد باطلاً لأن هذه المسؤولية تعد من النظام العام وورود مثل هذا يعد مخالفة صريحة للنظام العام([49]). أما فيما يتعلق بشرط الأعفاء من المسؤولية ذات الطبيعة الخاصة فأنه حسب تقديرنا لايمكن القول بجوازه فيها وذلك لأن منشأ هذه المسؤولية هو الطبيعة الخاصة للمرحلة التي تمر بها المفاوضات بين الأطراف ، ومع العلم أن كل متفاوض لا يجهل شخصية المتفاوض الأخر الذي يقابله ،فاذا ما أجيز للمتفاوض ان يشترط على المتفاوض الأخر أعفاءه من المسؤولية عن الأخطاء التي يرتكبها في مرحلة التفاوض والتي حالت دون أبرام العقد أو كانت سبباً في بطلانه والتي قد تلحق الضرر بالطرف الأخر ، فأن ذلك يعني الترخيص له بألحاق الضرر بالطرف الأخر وهذا مالم يقل به أحد علاوة على أن هذا يعد مخالفة صريحة لمبدأ حسن النية الذي يهيمن على هذه المرحلة.
المطلب الثالث
الخيرة بين المسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية
تجد المسؤولية العقدية شأن المسؤولية التقصيرية أساسها في الخطأ ، وقد يشكل هذا الخطأ – بوصفه واقعة ضارة – خطأ عقدياً وخطأ تقصيرياً في آن واحد , وهنا يثور التساؤل عن مدى أحقية الدائن في الخيرة بين أقامة دعواه أستناداً الى توافر خطأ عقدي أو خطأ تقصيري ؟ وكذلك حقه في الجمع بين المسؤوليتين ؟([50]). للأجابة على هذا التساؤل يمكن القول أنه لا خلاف بين الفقهاء على عدم جواز مسألة الجمع بين المسؤوليتين، فلو أخل أحد أطراف التفاوض بالألتزام الناشىء عن عقد ضمان السرية مثلاً في مرحلة المفاوضات فأنه لايجوز للدائن أن يطالب بتعويضين ، تعويض على أساس المسؤولية العقدية أستناداً الى أن أي أخلال بألتزام عقدي يقيم المسؤولية العقدية ويطالب بتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية أستناداً الى أن هذا الألتزام الذي تم خرقه يكون التزاماً عاماً يتفرع عن مبدأ حسن النية فيكون محمياً وفقاً لقواعد المسؤولية التقصيرية، لانه وحسب الرأي الراجح ينبغي أن لا يجاوز التعويض مقدار الضرر([51]). وفي الوقت ذاته لا يجوز للدائن و أن طالب بتعويض واحد أن يجمع في دعواه المدنية بين خصائص المسؤولية العقدية وخصائص المسؤولية التقصيرية ووفقاً لما يفيده من كل منهما والا ظهرت دعوى غير معروفة لا هي بالعقدية ولا هي بالتقصيرية ، وكذلك لا يجوز له اذا رفع أحدى الدعويين فخسرها أن يلجأ الى الدعوى الأخرى لأن قوة الشيء المقضي فيه تحول دون ذلك فعليه هو أن يتحمل غرم ذلك([52]). أما مسألة الخيرة بين المسؤوليتين ، فأن القضاء في فرنسا([53]). ومصر([54]). قد أنتهى الى عدم جواز الخيرة الا اذا كان الاخلال بالألتزام العقدي يكون جريمة او خطأ جسيماً وعلى هذا الأساس ليس أمام ضحية الخطأ العقدي الا دعوى المسؤولية العقدية من حيث المبدأ ، فاذا كان الخطأ العقدي يشكل جريمة او خطأ جسيماً كان له الخيرة بين دعوى المسؤولية العقدية ودعوى المسؤولية التقصيرية. وتطبيقاً لذلك ليس أمام المتفاوض ضحية الأخلال بالألتزامات التفاوضية الا دعوى المسؤولية العقدية او دعوى المسؤولية التقصيرية حسب الأحوال، وأن كان له الخيرة بينهما اذا شكل الخطأ جريمة أو غشاً او خطأً جسيماً فيكون للدائن في أي من هذه الحالات أن يرفع دعواه أستناداً الى قواعد المسؤولية التقصيرية او قواعد المسؤولية العقدية وحسب احوالها([55])، فقد يرى من مصلحته على سبيل المثال دعوى المسؤولية التقصيرية اذا كان صالحه في تضامن المدينين او في التزاماتهم بالتعويض عن الضرر المتوقع وغير المتوقع او في أبطال ما أدرجوه من بنود للأعفاء من المسؤولية([56]).
ونستخلص من هذا كله ،أنه اذا وجد هناك شرط يقضي باللجوء الى قواعد المسؤولية العقدية وحدها ، فلا يجوز لأي منهما الألتجاء الى قواعد المسؤولية التقصيرية ،لأن الطرفين قد أفصحا بأدراج هذا الشرط عن أرادة صريحة وواضحة .ونرى أن هذا الأمر يسري حتى في حالة كون الخطأ جسيماً فلا يجوز الألتجاء لقواعد المسؤولية التقصيرية ،لأن هذ الخطأ لا يخرج المتعاقد عن دائرة المسؤولية العقدية وهذا ما أخذ به المشرع العراقي اذ قضى بأن جزاء الخطأ الجسيم أو العمد هو تعويض المتعاقد عما لحقه من ضرر مباشر كان متوقعاً أو غير متوقع([57]). ونحن في هذا المقام نذهب لما ذهب إليه الأستاذ الكتور حسن علي الذنون من أنه اذا كان أخلال المتعاقد بتنفيذ ألتزامه التعاقدي يشكل جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات ،كما يعد في الوقت ذاته جريمة مدنية فحينئذ يجوز الألتجاء لأحدى المسؤوليتين ،أي يجوز للمتعاقد الذي أصابه الضرر الرجوع على المتعاقد الأخر أما بدعوى العقد او بدعوى الفعل الضار ، لكن يبقى الأصل هو أنه اذا أختار أحد هذين الطريقين أستنفذ حقه ولم يعد له بعد أن يلجأ الى الطريق الأخر الا اذا كان عدوله عن الطريق الذي أختاره قد تم قبل صدور الحكم النهائي في دعواه([58]).
الخاتمــــــة
بعد أن تطرقنا في هذا البحث للطبيعة القانونية للمسؤولية السابقة على التعاقد وتعرضنا للأتجاهات الفقهية المطروحة في هذا الصدد ووجدنا الحالات التي تنعقد فيها المسؤولية العقدية والأخرى تنعقد فيها المسؤولية التقصيرية وقبل ختام البحث تطرقنا لمسألة الخيرة بين المسؤوليتين توصلنا لما يأتي :
لا ضير من أبتداع نوع ثالث من المسؤولية وتحدد شرائطه وفقاً لأحتياجات العدالة اذ تحكم قواعد هذه المسؤولية مرحلة المفاوضة لأنها مرحلة سابقة على أبرام العقد وفيها خصوصية وهي أن ماتم طرحه فيها يعد ناتجاً عن أرادة الأطراف المتفاوضة ولا يجوز تجاهل هذه الأرادة .
وعليه نؤيد الأتجاه الفقهي الذي ينادي بجعل المسؤولية في مرحلة التفاوض مسؤولية خاصة وسابقة على التعاقد وتعالج خطأ يتمتع بخصوصية وهو يتمثل بالأخلال بالثقة المشروعة المتولدة في هذه المرحلة ،و تعالج ضرراً ناتجاً بمناسبة محاولة أبرام العقد وعليه اذا كان الأصل هو وكما رأينا بعد الأطلاع على العديد من المصادر نعتقد أن المسؤولية الناشئة في المرحلة السابقة على التعاقد هي مسؤولية تقصيرية الا أن هناك حالات يدق فيها التمييز وتكون المسؤولية عقدية فيها ،ومثلها الحالات التي يقطع فيها الطرفان مراحل جادة في طريقها الى التعاقد اذ يتوصلوا الى أبرام اتفاقات أولية سابقة على أبرام العقد الأصلي ، ولذلك فأن عدم تنفيذ أي ألتزام ورد في هذه الأتفاقات التمهيدية يرتب مسؤولية عقدية فمثلاً لوكان الأتفاق التمهيدي ينص على أن يكون هناك شخص ثالث يحدده احد الأطراف يقوم بتعيين ثمن الشيء المراد بيعه ،فأن عدم قيام ذلك الطرف بأختيار هذا الشخص قصداً منه الى عدم أبرام العقد الأصلي ، يجعله مسؤول مسؤولية عقدية ناتجة عن مخالفة الأتفاق التمهيدي.