أوجه الطعن بالإلغاء
بعد أن يبحث القضاء الإداري في اختصاصه بنظر الدعوى وتوفر الشروط الشكلية لقبولها، ينتقل إلى فحص موضوع الدعوى والبحث في أوجه إلغاء القرار المطعون فيه وهل خالف القانون أو وافقه .
وقد ظهرت أوجه الإلغاء أو الأسباب التي يستند إليها الطاعن لإلغاء القرار الإداري بجهود مجلس الدولة الفرنسي خلال تطور تدريجي طويل . وأول ما ظهر فيها عيب عدم الاختصاص ثم ظهر عيب الشكل ثم عيب الغاية أو انحراف السلطة ثم عيب المحل أو مخالفة القانون بالمعنى الضيق، وأخيراً عيب السبب الذي ظهر متأخراً . ( )
وإذا كان ظهور أوجه الإلغاء في فرنسا بفضل القضاء، فإن ظهورها في مصر( ) والعراق كان دفعة واحدة بنص المشرع .
فقد نص المشرع العراقي في المادة السابعة / ثانياً من القانون رقم 106 لسنة 1989 (قانون التعديل الثاني لقانون مجلس شورى الدولة رقم 65 لسنة 1979 ) :
(( يعتبر من اسباب الطعن بوجه خاص ما يلي:
1- ان يتضمن الامر او القرار خرقاً او مخالفة للقانون او الانظمة والتعليمات.
2- ان يكون الامر او القرار قد صدر خلافاً لقواعد الاختصاص او معيباً في شكله.
3- ان يتضمن الامر او القرار خطأ في تطبيق القوانين او الانظمة او التعليمات او تفسيرها او فيه اساءة او تعسف في استعمال السلطة ويعتبر في حكم القرارات او الاوامر التي يجوز الطعن فيها رفض او امتناع الموظف او الهيئات في دوائر الدولة والقطاع الاشتراكي عن اتخاذ قرار او امر كان من الواجب عليه اتخاذه قانوناً )).
وفي هذا الجزء من الدراسه سنبحث في عيوب القرار الإداري او اوجه الطعن بالالغاء امام محكمة القضاء الاداري.
المبحث الأول
عيب عدم الاختصاص
عيب عدم الاختصاص أول العيوب التي أخذ بها مجلس الدولة الفرنسي للطعن بالإلغاء لما يتمتع به من أهمية كبيرة لكونه يتعلق بتحديد اختصاصات كل موظف عام أو هيئة إدارية من جهة، ولأنه أكثر عيوب القرار الإداري وضوحاً من جهة أخرى .
فمن الجدير بالذكر أن توزيع الاختصاصات بين الجهات الإدارية من الأفكار الأساسية التي يقوم عليها نظام القانون العام ويراعي فيها مصلحة الإدارة التي تستدعي أن يتم تقسيم العمل حتى يتفرغ كل موظف لأداء المهام المناطة به على أفضل وجه، كما أن قواعد الاختصاص تحقق مصلحة الأفراد من حيث أنها تسهل توجه الأفراد إلى أقسام الإدارة المختلفة وتساهم في تحديد المسؤولية الناتجة عن ممارسة الإدارة لوظيفتها .
المطلب الأول: تعريف عيب عدم الاختصاص
استقر الفقه والقضاء الإداري على تعريف عيب عدم الاختصاص في دعوى الإلغاء بأنه عدم القدرة على مباشرة عمل قانوني معين لأن المشرع جعله من اختصاص سلطة أخرى طبقاً للقواعد المنظمة للاختصاص . ( )
وبسبب هذا التعريف فقد شبه بعض الفقهاء قواعد الاختصاص في القانون العام بقواعد الأهلية في القانون الخاص لأن كلاهما يقوم في الأساس على القدرة على مباشرة التصرف القانوني .
إلا أن الاختلاف يتضح من حيث المقصود في كل منهما، فالهدف من قواعد الاختصاص هو حماية المصلحة العامة أما قواعد الأهلية فالهدف منها هو حماية الشخص ذاته، كما أن الأهلية في القانون الخاص هي القاعدة أما عدم الأهلية فاستثناء على هذه القاعدة.
ويختلف الاختصاص عن ذلك في أنه يستند دائماً إلى القانون الذي يبين حدود أمكان مباشرة العمل القانوني وأن سبب عدم الأهلية يتركز في عدم كفاية النضوج العقلي للشخص بينما يكون الدافع في تحديد الاختصاص هو العمل على التخصص وتقسيم العمل بين أعضاء السلطة الإدارية . ( )
ويتميز عيب عدم الاختصاص بأنه العيب الوحيد الذي يتعلق بالنظام العام ( ) ويترتب على ذلك أن الدفع بعدم الاختصاص لا يسقط بالدخول في موضوع الدعوى ويجوز إبداؤه في أي مرحلة من مراحلها وأن على القاضي أن يحكم بعدم الاختصاص تلقائياً ولو لم يثيره طالب الإلغاء .
فضلاً عن أن قواعد الاختصاص من عمل المشرع وعلى الموظف أن يحترم حدود اختصاصه لأنها لم تكن قد وضعت لمصلحة الإدارة وإنما شرعت لتحقيق الصالح العام، لذلك لا يجوز للإدارة أن تتفق مع الأفراد على تعديل قواعد الاختصاص ولا يجوز للإدارة أن تتنازل عن اختصاص منحه لها القانون أو تضيف لاختصاصاتها اختصاص آخر .
كما استقر القضاء الإداري على أنه لا يجوز تصحيح عيب عدم الاختصاص أو تغطيته بقرار لاحق من الإدارة التي تملك الاختصاص وإن جاز أن تصدر قراراً جديداً على الوجه الصحيح لا ينتج أثره إلا من يوم صدوره .
المطلب الثاني: صور عيب عدم الاختصاص
اتفق القضاء والفقه الإداريان على وجود صورتين لعيب عدم الاختصاص هما عيب عدم الاختصاص الجسيم وهو ما يعرف باغتصاب السلطة، وعيب عدم الاختصاص البسيط .
الأول يجعل القرار منعدماً وفاقداً لصفته كقرار إداري ويصبح مجرد واقعة مادية لا تلحقه حصانة ولا يزيل عيبه فوات معياد الطعن فيه، أما العيب البسيط فيجعل من القرار باطلاً إلا أنه لا يفقد القرار الإداري مقوماته ويتحصن من الإلغاء بمرور الستين يوماً المحددة للطعن فيه .
أولاً- عيب عدم الاختصاص الجسيم:
يطلق الفقه و القضاء على عيب عدم الاختصاص الجسيم اصطلاح " اغتصاب السلطة " ويكون من أثره فقدان القرار لصفته وطبيعته الإدارية فلا يعد باطلاً وقابلاً للإلغاء فحسب وإنما يعد القرار معدوماً لا تلحقه أية حصانة ولا يزيل انعدامه فوات ميعاد الطعن فيه ولا يتقيد الطعن فيه بشرط الميعاد، إذ يمكن سحبه وإلغاءه بعد انتهاء ميعاد الستين يوماً المحددة للطعن .
وعلى هذا الأساس فأن تنفيذ الإدارة لهذا القرار يشكل اعتداءَ مادياً يسمح للقضاء العادي بالتصدي لتقرير انعدامه، وأن كان المنطق القانوني السليم يفضي إلى القول بعدم قبول دعوى الإلغاء ضد القرار الإداري المعدوم لأنه لا يترتب عليه أي اثر قانوني .
ومن هنا القضاء الإداري مستقر على قبول الطعن ضد القرار الإداري المعدوم لا لمجرد إلغاءه وإنما لإزالة الشبهة المتعلقة بمشروعيته .
وقد حدد القضاء الاداري المقارن الحالات التي يمكن اعتبار القرار مشوباً فيها بعيب عدم الاختصاص الجسيم أو اغتصاب السلطة ونتناول فيما يأتي هذه الحالات .
1- صدور القرار الإداري من فرد عادي أو هيئة خاصة:
في هذه الحالة يتدخل فرد عادي لا يتمتع بصفة الموظف في أعمال الإدارة أو أن تتدخل هيئة خاصة في ذلك وهي تملك حق مباشرة الاختصاصات الإدارية، فيعد القرار الصادر في هذه الحالة منعدماً ولا تترتب عليه أية آثار قانونية .
وهو ما درج عليه القضاء الإداري في فرنسا ومصر ( ) غير أن مجلس الدولة الفرنسي استثنى من هذه القاعدة حالة الموظفين الفعليين Les Fonctrionsnaires de Fait والموظف الفعلي هو ذلك الشخص غير المختص الذي لم يقلد الوظيفة أصلاً أو كان قرار تقلده الوظيفة معيباً من الناحية القانونية، ومع ذلك تكون قراراته منتجه لأثارها.
وتقوم هذه الناحية على أساس الأخذ بفكرة الظاهر في الأحوال العادية حماية للغير حسن النية الذي يتعامل مع الشخص العادي لظهوره بمظهر الموظف العام، وتقوم على أساس حالة الضرورة أو لتحقيق المصلحة العامة في عدم توقف المرافق العامة عن أداء وظيفتها في الظروف الاستثنائية .
وصار لهذا المبدأ صدى فطبق في ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى بصدد القرارات التي اتخذتها مجالس المجندين ومجالس العمال سنة 1918 فقد قرر القضاء فيما بعد أن هذه المجالس كانت تتصرف لتحقيق المصلحة العامة وقراراتها صحيحة والدولة مسؤولة عنها .
كذلك طبق هذا الحكم على القرارات التي أصدرتها لجان التحرير التي ظهرت في فرنسا بعد احتلال الألمان لفرنسا عام 1944 .
2- اعتداء السلطة التنفيذية على اختصاص السلطتين التشريعية أو القضائية:
يحدد المشرع غالباً اختصاصات كل سلطة من السلطات الثلاثة التشريعية والقضائية والتنفيذية، فإذا أصدرت الإدارة قراراً في موضوع هو من اختصاص السلطة التشريعية أو القضائية فإن قرارها هذا يكون من قبيل اغتصاب السلطة .
ومع ان محكمة القضاء الإداري في العراق لم يتسنى لها القضاء بهذا الخصوص فليس فيها ما يشير الى سلوك طريقا آخر.
3- صدور القرار من جهة إدارية اعتداء على اختصاص جهة إدارية أخرى لا تمت إليها بصلة:
يكون مرجع العيب في هذه الصورة انتهاك قواعد الاختصاص في نطاق الوظيفة الإدارية، كما لو صدر المحافظ قراراً هو من اختصاص وزير الثقافة .
وقد طبق مجلس الانضباط العام في العراق في أحد قراراته هذه الفكرة حيث قضى في حكمه الصادر في 26/3/1995 (وحيث أن أمين بغداد لم يكن من هيئة الوزراء فأنه لا يملك هذه الصلاحية كما لا يملك تخويلها ويكون الأمر الإداري الصادر بفصل الموظف قد وقع بناءً على توهم الموظف الإداري بأنه يملك هذه السلطة ، وحيث لا اختصاص إلا بنص فيكون حكمه حكم الغاصب لهذه السلطة مما يجعل القرار الصادر فيه محل الطعن من القرارات المعدومة من حيث الأثر القانوني ولا يخضع لمدة الطعن المقررة قانوناً) ( ).
ثانياً- عيب عدم الاختصاص البسيط:
عيب عدم الاختصاص البسيط يختلف عن اغتصاب السلطة أو عيب عدم الاختصاص الجسيم في أنه لا يؤدي إلى انعدام القرار الإداري وإنما يجعله قابلاً للإلغاء فقط، فالقرار الإداري يبقى محتفظاً بمقوماته كقرار إداري ويبقى نافذاً حتى يصدر القضاء حكمه بإلغائه .
وهذا العيب أقل خطورة من عيب عدم الاختصاص الجسيم لذلك فإن القرار المشوب به يتحصن من الطعن بفوات مدة الستين يوماً المحددة للطعن بالإلغاء .
ومن الأمور المستقرة في القضاء الإداري أن هناك ثلاث حالات مختلفة لعدم الاختصاص البسيط وهي عدم الاختصاص من حيث المكان وعدم الاختصاص من حيث الزمان وعيب عدم الاختصاص من حيث الموضوع .
1. عيب عدم الاختصاص من حيث المكان:
يترتب هذه العيب في حالة تجاوز جهة الإدارة للنطاق الأقليمي أو الجغرافي المحدد قانوناً لممارسة اختصاصها، فلا يجوز للمحافظ أن يتخذ قرار خارج النطاق الجغرافي لمحافظته فإذا اتخذ قرار يدخل ضمن حدود محافظة أخرى فأنه يكون مشوباً بعيب عدم الاختصاص لصدوره خارج النطاق الإقليمي المحدد له .
وهذا العيب قليل الحدوث في العمل لأن المشرع كثيراَ ما يحدد وبدقة النطاق المكاني الذي يجوز لرجل الإدارة أن يمارس اختصاصه فيه وغالباً ما يتقيد رجل الإدارة بحدود هذا الاختصاص ولا يتعداه .
2. عدم الاختصاص من حيث الزمان:
ويقصد بعيب عدم الاختصاص من حيث الزمان أن يصدر الموظف أو جهة الإدارة قراراً خارج النطاق الزمني المقرر لممارسته، كما أو أصدر رجل الإدارة قراراً إدارياً قبل صدور قرار تعيينه أو بعد قبول استقالته أو فصله من الوظيفة أو إحالته على التقاعد.
كذلك إذا حدد المشرع مدة معينة لممارسة اختصاص معين أو لإصدار قرار محدد فأن القرار الصادر بعد انتهاء المدة الزمنية المعينة لإصداره يعد باطلاً ومعيباً بعدم الاختصاص إذا اشترط المشرع ذلك فإن لم يفعل فقد درج القضاء الإداري المقارن على عدم ترتيب البطلان . ( )
3. عدم الاختصاص من حيث الموضوع:
ويتحقق عدم الاختصاص من الناحية الموضوعية عندما يصدر قرار إداري في موضوع هو من اختصاص موظف أو جهة إدارية غير التي قامت بإصداره فتعتدي بذلك على اختصاص تلك الجهة .
ويكون هذا الاعتداء أما من جهة إدارية على اختصاص جهة إدارية موازية أو مساوية لها، أو من جهة إدارية دنيا على اختصاص جهة إدارية عليا أو من جهة إدارية عليا على اختصاص جهة أدنى منها، أو اعتداء السلطة المركزية على اختصاص الهيئات اللامركزية .
أ- الاعتداء على اختصاص جهة إدارية موازية:
ومضمون هذا العيب أن تقوم جهة إدارية بالاعتداء على اختصاص جهة إدارية أخرى هي مساوية أو موازية لها وليس هناك تبعية رئاسية أو رقابية بين هاتين الجهتين، كما لو أصدر وزير العدل قراراً هو من اختصاص وزير التعليم .
أما إذا منح المشرع الاختصاص في إصدار قرار معين لأكثر من جهة ففي هذه الحالة إذا أصدرت إحدى الجهتين القرار يمتنع على الجهة الإدارية الأخرى أن تصدر قرار آخر يتعارض مع القرار الأول . ( )
ب- اعتداء جهة إدارية دنيا على اختصاص جهة أعلى منها:
هذه الحالة من أكثر حالات عدم الاختصاص وقوعاً في العمل الإداري، وتحدث عندما يصدر المرؤوس قراراً من اختصاص رئيسه دون تفويض منه، فإذا حصل ذلك فإن القرار يكون معيباً بعدم الاختصاص البسيط، ومثال ذلك أن يصدر نائب المحافظ قراراً هو من اختصاص المحافظ .
جـ- اعتداء جهة إدارية عليا على اختصاص جهة ادني منها:
يتولى الرئيس الإداري حق الرقابة والأشراف والتوجيه علي أعمال مرؤ سه ضمانا لحسن سير المرفق العام الذي يديره ويشرف عليه ومع ذلك فقد يمنح المشرع المرؤوس بعض الصلاحيات في إصدار قرار معين دون تعقيب من رئيسه الإداري وفي هذه الحالة لا يجوز أن يحل الرئيس نفسه محل السلطة أو الجهة الإدارية التي هي ادني منه ويتوجب علي الرئيس أن ينتظر لحين مباشرة الجهة الأدنى لا اختصاصها ومن ثم يباشر سلطته في الرقابة عليه بحدود القانون .
وقد يحصل أن يكون الاختصاص مشتركا بحيث يقوم بممارسته الرئيس والمرؤوس وفي هذه الحالة لا يجوز أن يستقل الرئيس الإداري بممارسة الاختصاص ألا إذ مارسه بصحبة مرؤوسة وإلا اعتبر القرار مشوباً بعيب عدم الاختصاص .( )
د- اعتداء السلطة المركزية علي اختصاص الهيئات اللامركزية:
يقوم النظام اللامركزية علي أساس وجوده مصالح إقليمية أو مرفقية أعترف لها المشرع بقدر محدد من الاختصاصات وقدر معين من الاستقلال في مزاولة هذه الاختصاصات تحت وصاية السلطات المركزية في الدولة .
والقانون يضع حدود الأشراف الذي تمارسه السلطة المركزية على الهيئات اللامركزية سواء اتخذت هذه الرقابة طابع التصديق علي القرارات المتخذة أو الحلول في بعض الأحيان محل هذه السلطات في مباشرة جانب من اختصاصاتها في الحدود التي رسمها القانون. ( )
وبناء علي ذلك لا يجوز أن تصدر السلطة المركزية قرار تتجاوز به الحدود القانونية التي رسمها لها المشرع وتمارس اختصاصا يقع في ضمن اختصاص الهيئات المحلية أو اللامركزية، ولا يجوز لها أن تحل محلها في مباشرة اختصاص معين لم يخولها القانون حق الحلول فيه ولا يجوز لها أن تعدل قرار اتخذته وألا كان عملها هذا مشوباً بعيب عدم الاختصاص .